بطلان القول بأن الأرواح
سرمدية
الخميس 27 جمادى الأولى
1438 - 23-2-2017
رقم الفتوى: 346834
السؤال:
ما رأيكم في: Reincarnation ـ أو ما يطلقون عليه في الأوساط الإسلامية التناسخ ـ وهي ترجمة
خاطئة... من وجهة نظري ـ Self Evident ببرهان ذاتي ـ
أي لا يحتاج إلى برهان ـ فهل تقدر أن تعيش إلى ما لا نهاية؟ وهل تقدر أن تعيش 100
سنة.. تقول.. أقدر، فهل تقدر أن تعيش 1000 سنة؟..... وهل تقدر أن تعيش 10000 سنة..
نعم أقدر، وهل تقدر أن تعيش 10000 سنة... وهل تقدر أن تعيش 100000 سنة ـ مائة ألف
سنة..... Reincarnation صحيح، لكن ليس بالمفهوم الغربي أو الشرقي..... فالأمر هو أننا
نتمتع بكل متع الحياة في حدود القِيَم.. ونعيش حتى يطول علينا العمر حتى نمَلّ
الحياة... ثم لا يكون بد إلا أن تُنزَع الذاكرة من جوهرنا ـ أرواحناـ ثم ندخل فترة
راحة.. ثم ندخل فترة خَلْقيّة جديدة... وهكذا في دورات لا تنتهي.. فَالأرواح
سرمدية، كما أن الله سرمدي، فالله لم يخلق أرواحنا....... انظر قول الله تعالى في
سورة هود: ولئن قلت إنك مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر
مبين{هود: 7} مبعوثون بالفعل، وليس ستبعثون من بعد الموت... وانظر قول الله تعالى:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون
عنها حِوَلاً {الكهف:107ـ 108} كانت بالفعل، لهم جنات الفردوس نزلا... وليس ستكون
لهم جنات الفردوس نزلاً..... وانظر قول الله تعالى: بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى
طال عليهم العمر....... Reincarnation ـ بالنسبة لي
هو Self
Evident ولا تحتاج إلى برهان، فما رأيكم؟.
وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري ما وجه الخطأ في
ترجمة:
Reincarnation ـ بالتناسخ، فهذا المصطلح
يترجم في المعاجم العريقة للغة الإنجليزية الصرفة بإعادة حياة الروح في جسد بشري
جديد، وهذا لا يختلف مع معنى تناسخ الأرواح في المصطلح العربي أو التراث الإسلامي!
وعلى أية حال، فعقيدة تناسخ أو تقمص الأرواح أو إعادة تجسديها: عقيدة باطلة قطعا،
ولا يقوم عليها برهان صحيح، من نقل أو عقل أو حس أو تجربة، وإنما هي فكرة خيالية
يعتنقها بعض ضلال البشر دون دليل ولا برهان، وما وصفه السائل بالأمر البديهي: Self Evident ـ
وذكر أن برهانه ذاتي: مما يطول منه العجب، ويحمل المرء على حمد ربه على نعمة
العقل، واتباع الرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ
ثم لا ندري ما هو الخلاف بين
ما سماه السائل: المفهوم الغربي أو الشرقي لتناسخ الأرواح، وبين تعريفه هو
للتناسخ، حيث يقول: الأمر هو أننا نتمتع بكل متع الحياة في حدود القِيَم، ونعيش
حتى يطول علينا العمر، حتى نمَلّ الحياة، ثم لا يكون بد إلا أن تُنزَع الذاكرة من
جوهرنا ـ أرواحنا ـ ثم ندخل فترة راحة، ثم ندخل فترة خَلْقيّة جديدة، وهكذا
في دورات لا تنتهي!!! وهذا في الحقيقة لا يحتاج
إلى تعليق، فقراءته كفيلة برده ومَجِّه! وهذه الفكرة الخرافية هي التي أدت بالسائل
دون أن يشعر للقول بقدم الأرواح، وهو قول كفري محض، حيث يقول: الأرواح سرمدية كما
أن الله سرمدي، فالله لم يخلق أرواحنا ـ وهو قول قديم لبعض الزنادقة وملاحدة
الفلاسفة، وقد تولى علماء الإسلام رده وإبطاله من قرون متطاولة! ويمكنك مراجعة
تفصيل ذلك في كتاب: الروح ـ لابن القيم، فقد أسهب في ذلك وأفرده
بمسألة مستقله من مسائل كتابه في أكثر من عشر صفحات ـ من ص: 144، إلى ص: 156 ـ
المسألة السابعة عشرة: وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة؟ ولا ندري كيف يستدل
السائل على هذا الباطل الظاهر بآيات من كتاب الله تعالى، لا علاقة لها بالموضوع
أصلا، وقد كان يكفيه لو أنصف، قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلَّا قَلِيلًا {الإسراء: 85}!.
وعلى أية حال، فقد سبق لنا
بيان التهافت في ادعاء تناسخ الأرواح، فراجع الفتويين رقم: 130632، ورقم: 58592.
ثم إننا بمراجعة الأسئلة
السابقة للسائل وجدناه يخوض في تفسير آيات القرآن برأيه، مع جهله الواضح بلغة
العرب، فضلا عن علوم الشريعة المتخصصة، ومع ذلك يتجرأ على نقد
ألفاظ القرآن ويبطل معانيه بطريقة فجة قبيحة، ولذلك ننصحه بالتوبة والاستغفار
وإتيان العلم من بابه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما العلم بالتعلم. رواه الخطيب في تاريخه، وحسنه الألباني.
والله أعلم.
==================================================
التأويل الصحيح لقوله تعالى:
(وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا...)
الأحد 11
شعبان 1438 - 7-5-2017
رقم الفتوى:
352372
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب... لست ناقضاً أو ناقداً للقرآن العظيم, ولكن وهبني ربي فهماً في كتابه, وأحب أن أنشر هذا الفهم، وبعض القضايا القرآنية التي أثيرها, ربما لا أجد لها حلاً الآن, لكنني أستثير حماسكم لعلنا نجد لها حلاً، فأنا من حفظة القرآن... ودرست جيدا اللغة العربية والمنطق والفلسفة، وخريج جامعة الأزهر... والقضايا القرآنية التي تثار, الله يعلمها, وهو الذي أوجدها, وهو الذي يريدنا أن نجد لها حلاً... إنا أنزلنه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون، فما رأي سيادتكم في ظاهرة الالتفات في القرآن الكريم؟ وهل لذلك علاقة بقوله تعالى: قرآنا عربياً غير ذي عوج ـ وقوله تعالى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً؟ أقول: القضية الفاسدة في المنطق هي التي لا تلزم نتيجتها من مقدمتها... أو هي التي عكست فصارت النتيجة سببا، والسبب نتيجة... والقضية الفاسدة خلل منطقي, فلماذا جاء القرآن بقضية فاسدة!!!! في أول الأعراف في قوله تعالى: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون ـ القضية الصحيحة هي العكس، وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون فأهلكناها!!! أرجو التأمل معي في القرآن حتى نفهم مراد الله. وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما أسلوب الالتفات في
القرآن الكريم، فطريقة استعمال القرآن له يعد وجها من وجوه الإعجاز اللغوي في
القرآن الكريم، وهو في اللغة بصفة عامة أحد وجوه البلاغة العربية! وقد كثر جدا في
القرآن الكريم، ومن المستغرب ـ بل المستهجن ـ أن يخلط أحد بين هذا
الأسلوب العربي الفصيح البليغ، وبين العوج!!! فالقرآن: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
ـ قال السعدي: أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه ولا في معانيه،
وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا. اهـ.
وقال في تفسير آية
الكهف: وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين على أنه الكامل من جميع الوجوه،
وهما نفي العوج عنه، وإثبات أنه قيم مستقيم، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره
كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث، وإثبات الاستقامة، يقتضي أنه لا يخبر ولا
يأمر إلا بأجل الإخبارات.. وأن أوامره ونواهيه، تزكي النفوس وتطهرها وتنميها
وتكملها، لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده
لا شريك له.
اهـ.
فهذا شيء، والالتفات شيء آخر
تماما، قال السيوطي في معترك الأقران في إعجاز
القرآن: الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر ـ أعني من التكلم
أو الخطاب أو الغيبة ـ إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور،
وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقُّه التعبير بغيره، وله فوائد،
منها: تَطْرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجَر والملل، لِمَا جُبِلت عليه النفوس
من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على مِنْوَال واحد، هذه فائدته العامة،
ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله كما سنبيِّنُه... اهـ.
وقال عبد الرحمن الميداني في البلاغة العربية: الالتفات من الأساليب البلاغيَّةِ ذَاتِ اللَّطَائف النفيسة، وقد
تكرّر في القرآن المجيد استخدامه جداً، وله فيه أمثلة كثيرة، وهو فنٌّ بديعٌّ من
فنون القول يُشْبِهُهُ تحريكٌ آلات التصوير السينمائي بنقلها من مشهد إلى مشهد آخر
في المختلفات والمتباعدات الّتي يُرادُ عَرْضُ صُوَرٍ مِنْها، ومفاجأة
الْمُشَاهِدِ بلَقَطاتٍ مِنْها متباعدات، ولكنَّها تدخُلُ في الإِطار الْكُلّي
الذي يُراد عرض طائفةٍ من مشاهده تدلُّ على ما يُقْصد الإِعلام به، ويَهْدِي
الذوقُ الأدبيُّ السليم إلى استخدام الالتفات استخداماً بارعاً يُحَقِّق به البليغ
فوائد في نفس المتَلَقِّي أو فكره، مع ما يُحِقِّق به من الاقتصاد والإِيجاز في
العبارة، فلننظر إلى الالتفات البديع الموجود في النصّ القرآنيّ التالي: بينما
يتحدّث النّصّ عن بني إسرائيل الأوّلين ما فعلُوا من كبائِرَ بأسلوب الحديث عن
الغائب، يلتفت النّصّ فيخاطب بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن فمن يأتي بعدهم
كأنَّهم الأوّلون أنفسُهم، للإِشعار بأنّ هؤلاء الْخُلُوف ما زالوا يتّصفون بأوصاف
الأوّلين، لم يغيّروا منها شيئاً، فهم مَعْنِيُّون بعموم الخطاب، فقال الله عزّ
وجلّ في سورة الأعراف: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هاذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ
عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن
لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ والدار الآخرة
خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {الآية: 169} فالالتفاتُ في: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ـ خطاباً لبني إسرائيل
المعاصرين لنزول النصّ فمن بعدهم فيه فائدتان:
الأولى:
فنيّةُ التنويع في العبارة المثيرة لانْتِباه المتلَقِّي، والباعثة لنشاطه في
استقبال ما يُوَجَّه له، والإِصْغَاءِ إلَيْه.
الثانية:
الاقتصاد والإِيجاز في التعبير، فبدل أن يقول النصُّ لمعاصري التنزيل الكافرين من
بني إسرائيل فمن بَعْدَهم: وأنتم يا بني إسرائيل ما زِلْتُم على طريقة أسْلاَفِكُمْ،
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟ اقْتَصَرَ النّصُّ على: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ـ مُسْتَغْنِياً
بأُسْلُوبِ الالْتفاتِ، للدلالة على ما يُمْكِن فَهْمُه ذِهْناً، إذْ اعتَبَرَهُمُ
النَّصُّ داخِلِين في عُمُوم خطاب الغائبين السّالِفين، إذْ هم موافقون على ما
كانوا يفعلون، أو يفعلون مثلهم. اهـ.
وأما معنى الفاء ودلالة استعمالها في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ {الأعراف: 4} فقد تكلم عنه المفسرون، من قدماء ومعاصرين، بما لا مزيد عليه، فهذا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري يقول في تفسيره: فإن قال قائل: وكيف قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: أهلكناها فجاءها؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:
وأما معنى الفاء ودلالة استعمالها في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ {الأعراف: 4} فقد تكلم عنه المفسرون، من قدماء ومعاصرين، بما لا مزيد عليه، فهذا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري يقول في تفسيره: فإن قال قائل: وكيف قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: أهلكناها فجاءها؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:
أحدهما: أن
يكون معناه: وكم من قرية أهلكناها ـ بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من
البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها:
فجاءها بأسنا ـ إذ فعلت ذلك: بياتا أو هم قائلون ـ فيكون إهلاك الله إياها: خذلانه
لها عن طاعته، ويكون مجيء بأس الله إياهم: جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.
والآخر منهما: أن يكون الإهلاك هو البأس بعينه، فيكون في ذكر الإهلاك الدلالةُ على ذكر مجيء البأس، وفي ذكر مجيء البأس الدلالة على ذكر الإهلاك، وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك، وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني، إذ كانت الزيارة هي الكرامة، فسواء عندهم قدم الزيارة وأخر الكرامة، أو قدم الكرامة وأخر الزيارة، فقال: أكرمتني فزرتني.
والآخر منهما: أن يكون الإهلاك هو البأس بعينه، فيكون في ذكر الإهلاك الدلالةُ على ذكر مجيء البأس، وفي ذكر مجيء البأس الدلالة على ذكر الإهلاك، وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك، وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني، إذ كانت الزيارة هي الكرامة، فسواء عندهم قدم الزيارة وأخر الكرامة، أو قدم الكرامة وأخر الزيارة، فقال: أكرمتني فزرتني.
وكان بعض أهل
العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا وأن معنى ذلك:
وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا، وهذا قول لا دلالة على
صحته من ظاهر التنزيل، ولا من خبر يجب التسليم له، وإذا خلا القولُ من دلالة على
صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده، وقال آخر منهم
أيضًا: معنى الفاء في هذا الموضع معنى الواو، وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية
أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا، وهذا قول لا معنى له، إذ كان للفاء عند العرب من
الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك
سبيل، أولى من صرفها إلى غيره. اهـ.
وقال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: الفاء في قوله: فجاءها بأسنا ـ عاطفة جملة: فجاءها بأسنا ـ على
جملة: أهلكناها، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه،
ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على
جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا، حتى قال الفراء: إن الفاء لا تفيد الترتيب
مطلقا، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني
فأساء، وأساء فشتمني، وعن بعضهم: أن الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل: جاءها
بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النكتة، فهو مردود، والذي فسر به الجمهور: أن
فعل: أهلكناها ـ مستعمل في معنى إرادة الفعل، كقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {النحل: 98} وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم {المائدة: 6} الآية أي: فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة،
واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي، قال: ومن
أمثلة المجاز قوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله {النحل: 98} استعمل قرأت مكان أردت القراءة، لكون القراءة مسببة عن
إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في: فاستعذ بالله ـ وقوله: وكم من قرية
أهلكناها ـ في موضع أردنا إهلاكها بقرينة: فجاءها بأسنا ـ والبأس الإهلاك،
والتعبير عن إرادة الفعل بذكر الصيغة التي تدل على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم
الفاعل على الفعل، عزما لا يتأخر عنه العمل، بحيث يستعار اللفظ الدال على حصول المراد،
للإرادة لتشابههما، وأما الإتيان بحرف التعقيب بعد
ذلك فللدلالة على عدم التريث، فدل الكلام كله: على أنه تعالى يريد فيخلق أسباب
الفعل المراد فيحصل الفعل، كل ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة، وقد استفيد هذا
التقارن بالتعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل، والتعبير عن حصول السبب بحرف
التعقيب، والغرض من ذلك تهديد السامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحل غضب الله
عليهم فيريد إهلاكهم، فضيق عليهم المهلة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتعجيل
بالتوبة، والذي عليه المحققون أن الترتيب في فاء العطف قد يكون الترتيب الذكري، أي
ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه، ففي الآية أخبر عن كيفية إهلاكهم
بعد الخبر بالإهلاك، وهذا الترتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف
المفصل على المجمل، وبذلك سماه ابن مالك في التسهيل.. اهـ.
وبهذا يتضح ما أشكل على
السائل! وهنا نكرر ما نصحناه به قبل ذلك مرارا، بأن يغير من أسلوبه في
التعامل مع القرآن الكريم، ولا يعتمد على فهمه هو في إثبات معنى الآيات وما يترتب
على ذلك من إشكالات، بل ينبغي أن يرجع إلى كلام أهل العلم من الفسرين وأهل اللغة،
ليتبين له المراد، ثم إننا نربأ به عن تزكية نفسه ورؤيتها، فإن ذلك من أسباب
الخذلان، لما يؤدي إليه من الغرور والعجب والعياذ بالله.
والله أعلم.
==================================================
المراد من التثنية في قوله
تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
الثلاثاء 10
شوال 1438 - 4-7-2017
رقم الفتوى:
355489
السؤال:
في سورة الرحمن لاحظت ملاحظة جميلة، وهي كالتالي: ذكرت آية: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) في السورة مكررة 31 مرة، ومن الواضح فيها أن التثنية تعود على الإنس والجن، لكن السؤال هنا: لماذا ذُكرت أول آية: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) رقم 13، مع أن أول ذكر للإنس والجن، جاء بعدها مباشرة، وليس قبلها، وكان من المفترض أن يأتي قبلها؟ أرجو الرد، وشكرًا.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن
الخطاب في الآية جاء بصيغة التثنية، فحمله كثير من أهل العلم على
خطاب الثقلين: الجن والإنس معًا، وحمله بعضهم على خطاب الإنس فقط،
ولكنه جاء على ما عرف عند العرب من خطاب الواحد بخطاب المثنى، كما في
قول امرئ القيس:
قفا نبك
...
وقول الشاعر:
فإن تَزجُراني بابن
عفانَ أنزجِر.
. . وإن تدعاني أَحم أنفًا مُمَنّعا.
ويدل لترجيح القول الأول،
دخول الثقلين في كلمة الأنام، وتوجيه الخطاب إليهما صريحًا، فيما سيأتي من
قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ
{الرحمن:31}،
وقوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ {الرحمن:33}، وقوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا
تَنْتَصِرَانِ {الرحمن:35}.
فقد
جاء في تفسير الطبري: فإن قال: لنا قائل: وكيف قيل: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فخاطب
اثنين، وإنما ذُكر في أول الكلام واحد، وهو الإنسان؟ قيل: عاد بالخطاب في قوله:
(فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلى الإنسان والجان، ويدل على أن ذلك كذلك، ما بعد هذا
من الكلام، وهو قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار).
وقد قيل: إنما
جعل الكلام خطابًا لاثنين، وقد ابتدئ الخبر عن واحد؛ لما قد جرى من فعل العرب، تفعل
ذلك، وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين، فيقولون: خلياها يا غلام، وما أشبه ذلك،
مما قد بيناه من كتابنا هذا في غير موضع. اهـ.
وفي تفسير القرطبي: قوله تعالى:
(فبأي آلاء ربكما تكذبان) خطاب للإنس والجن؛ لأن الأنام واقع عليهما، وهذا قول
الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي، وفيه: ( لَلْجن
أحسن منكم ردًّا). وقيل: لما قال: (خلق الإنسان)، (وخلق الجان) دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضًا قال:
(سنفرغ لكم أيه الثقلان)، وهو خطاب للإنس والجن، وقد قال في هذه السورة: (يا معشر
الجن والإنس).
وقال
الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: (حتى توارت
بالحجاب)، وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة،
فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس، خوطب الجنسان بهذه الآيات، وقيل: الخطاب للإنس على
عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في (ألقيا في
جهنم)، وكذلك قوله:
قفا نبك ...
قفا نبك ...
فأما ما بعد
(خلق الإنسان)، و(خلق الجان) فإنه خطاب للإنس والجن، والصحيح قول الجمهور.
اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير: قوله عز وجل: فبأي آلاء ربكما تكذبان. فإن قيل: كيف خاطب اثنين،
وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان، ذكرهما الفراء:
أحدهما: أن
العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين، كما بينا في قوله: ألقيا في جهنم.
والثاني: أن
الذكر أريد به: الإنسان والجان، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.
قال الزجاج:
لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم
البيان، وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض، خاطب الجن والإنس، فقال: فبأي آلاء
ربكما تكذبان، أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها
منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. اهـ.
والله
أعلم.
==================================================
فائدة خطاب الأنبياء بما
يستحيل وقوعهم فيه كقوله تعالى: "ولا تكونن من المشركين"
الإثنين 19
محرم 1439 - 9-10-2017
رقم الفتوى:
361144
السؤال:
إبراهيم يقول الحق عنه: "وما كان من المشركين"، "ولم يك من المشركين"، "ولم يكن من المشركين"، لكنه يقول في سورة الحج: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا" {الحج: 26}، فلماذا لم يقل: "أن لا تشركوا بي شيئًا"، أو: "أن لا يشركوا بي شيئًا"؟ وهل إبراهيم كان مشركًا أم غير مشرك؟ وهل هناك نوعان من الشرك، وكان إبراهيم مصابًا بأحدهما دون الآخر؟ وشكرًا.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يشرك بربه قط، وقد ذكر الله
تعالى عنه البعد عن الشرك في القرآن، وذلك فيما ذكرت، وفي قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {الأنعام:79}.
والنهي
عن الشرك المذكور مثل نهي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنه، كما في قوله
تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
{الأنعام:14}،
وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ {يونس:105}، وقوله: وَلَا
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى
رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {القصص:87}.
ومن المعلوم استحالة الشرك
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون في نهيه عن الشرك تثبيت له، ونهي
لأمته، فقد جاء في تفسير الألوسي: فلا تكن من الممترين ـ خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يضر
فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: ولا تكونن
من المشركين ـ بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين:
إحداهما: أنه
صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية، فيزداد في
الثبات على اليقين نورًا على نور.
وثانيتهما: أن
السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عما يورث الامتراء؛ لأنه صلى
الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني، إذا خوطب بمثله فما
يظن بغيره؟ ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره.. اهـ.
هذا،
وننبه إلى أن: لم يكن من المشركين ـ ليست في القرآن.
والله أعلم.
==================================================
إيضاح لبعض الكلمات في سورة
الطور
الأحد 25 محرم
1439 - 15-10-2017
رقم الفتوى:
361663
السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم. في سورة الطور بعض الملاحظات، كالتالي: يقول الحق في آية 11 (فويل يومئذٍ للمكذبين) ووصف المكذبين بأنهم (الذين هم في خوض يلعبون)، ثم تكلم بعد ذلك عن المتقين في آية 17، ثم عن الذين آمنوا في آية 21. ثم تكلم بعد ذلك عن فئة لم يحدد ما هي، يحتمل أن يكونوا المكذبين المذكورين في آية: 11، وذلك ابتداء من قوله تعالى: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) آية 30، إلى الآية 46، ثم يذكر بعد ذلك في الآية 47 (الذين ظلموا) في قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون). فهل الذين ظلموا غير المكذبين المذكورين في آية 11، وما معنى (دون ذلك)؟ أرجوا الرد، وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن
المراد بالقوم المذكورين في آية 30 وما بعدها، هم كفار قريش، وهم داخلون في جملة
المكذبين.
ففي
تفسير ابن كثير: يقول تعالى
آمرا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما
أنزل الله عليه. ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: {فذكر فما أنت
بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} أي: لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار
قريش. والكاهن: الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، {ولا
مجنون} : وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} أي: قوارع الدهر. والمنون: الموت: يقولون: ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت، فنستريح منه ومن شأنه، قال الله تعالى: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي: انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، كما هلك من هلك قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك من قولهم: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون}. اهـ.
ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} أي: قوارع الدهر. والمنون: الموت: يقولون: ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت، فنستريح منه ومن شأنه، قال الله تعالى: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي: انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، كما هلك من هلك قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك من قولهم: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون}. اهـ.
وفي تفسير القرطبي: قوله تعالى:
(فذكر) أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. (فما أنت بنعمة ربك) يعني برسالة ربك
(بكاهن) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. (ولا مجنون) وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم، فعقبة بن أبي معيط
قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن، فأكذبهم الله
تعالى ورد عليهم. اهـ.
وأما
المراد بالظالمين، فهم الكفار المكذبون، وقد عدل عن الإضمار فأظهر؛ لبيان سبب
عذابهم وهو الظلم والكفر.
وأما قوله: دون ذلك، فيشمل
ما يسبق عذاب الآخرة من عذاب الدنيا، بالقتل والسبي، والإخراج من الديار،
وعذاب القبر.
ففي تفسير النسفي: {وإن للذين ظلموا} وإن لهؤلاء الظلمة {عذابا دون ذلك} دون يوم
القيامة وهو القتل ببدر، والقحط سبع سنين، وعذاب القبر. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير: قوله تعالى: وإن للذين ظلموا. أي: أشركوا، عذابا دون ذلك، أي: قبل
ذلك اليوم، وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه
عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس.
والثاني: عذاب
القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل.
والثالث:
مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد.
والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد. اهـ.
وفي تفسير السعدي: لما ذكر
[الله] عذاب الظالمين في القيامة، أخبر أن لهم عذابا دون عذاب يوم القيامة، وذلك
شامل لعذاب الدنيا، بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر. اهـ.
والله
أعلم.
==================================================
الفرق بين السيئات والذنوب
الأربعاء 19
صفر 1439 - 8-11-2017
رقم الفتوى:
363940
السؤال:
الإخوة في إسلام ويب، يقول الحق في آل عمران: (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) آل عمران-193. ما الفرق بين الذنب والسيئة، إذا كان الذنب أعظم من السيئة، فكيف يُغفر الذنب بينما السيئة تحتاج لكفارة (فدية)؟ أرجو الرد، وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قول
الله تعالى على لسان عباده أولي الألباب: رَبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ {آل
عمران:193}، المراد فيه بالذنوب: الكبائر، وبالسيئات: الصغائر.
وقد جلى ذلك ابن القيم ببيان شاف كاف، فقال: فصل في الفرق بين تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب: وقد جاء في كتاب
الله تعالى ذكرهما مقترنين، وذكر كلا منهما منفردا عن الآخر، فالمقترنان كقوله
تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا
مع الأبرار} [آل عمران: 193]، والمنفرد كقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات
وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} [محمد:
2]، وقوله في المغفرة: {ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم} [محمد: 15]،
وكقوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} [آل عمران: 147] ونظائره.
فهاهنا أربعة أمور: ذنوب، وسيئات، ومغفرة، وتكفير.
فالذنوب:
المراد بها الكبائر، والمراد بالسيئات: الصغائر، وهي ما تعمل فيه الكفارة، من الخطأ وما جرى مجراه، ولهذا
جعل لها التكفير، ومنه أخذت الكفارة، ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر
في أصح القولين، فلا تعمل في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس في ظاهر مذهب أحمد
وأبي حنيفة.
والدليل على
أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها، قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى
الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر». ولفظ المغفرة
أكمل من لفظ التكفير، ولهذا كان من الكبائر، والتكفير مع الصغائر، فإن لفظ المغفرة
يتضمن الوقاية والحفظ، ولفظ التكفير يتضمن الستر والإزالة، وعند الإفراد يدخل كل
منهما في الآخر كما تقدم، فقوله تعالى: {كفر عنهم سيئاتهم} [محمد: 2] يتناول
صغائرها وكبائرها، ومحوها ووقاية شرها، بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال،
كما قال تعالى: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} [الزمر: 35].
وإذا فهم هذا،
فهم السر في الوعد على المصائب والهموم والغموم والنصب والوصب بالتكفير دون
المغفرة، كقوله في الحديث الصحيح: «ما يصيب المؤمن من هم ولا غم، ولا أذى -حتى
الشوكة يشاكها- إلا كفر الله بها من خطاياه» فإن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب،
ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة، أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب، فهي
كالبحر لا يتغير بالجيف، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. فلأهل الذنوب ثلاثة
أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا، فإن لم تف بطهرهم طهروا في نهر الجحيم يوم
القيامة: نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر
المصائب العظيمة المكفرة، فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار
الثلاثة، فورد القيامة طيبا طاهرا، فلم يحتج إلى التطهير الرابع
.اهـ.
من مدارج السالكين.
وأما
قولك: (إذا كان الذنب أعظم من السيئة، فكيف يُغفر الذنب بينما السيئة تحتاج لكفارة
(فدية)): فغريب! فليس في الآية الكريمة أن السيئات تحتاج إلى فدية من
العبد -كما زعمت- بل فيها دعاء الله عز وجل بأن يغفر ذنوبهم، ويكفر عنهم
سيئاتهم، هذا أولا، وثانيا: فإن كون المعصية تمحى بالكفارة من العبد، دليل على
أنها من الصغائر، فالكبائر والموبقات لا تمحوها الكفارات والفِدى -كما وضحه
ابن القيم في كلامه المتقدم-.
والله أعلم.
==================================================
تفسير قوله تعالى: إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
الأحد 23 صفر
1439 - 12-11-2017
رقم الفتوى:
364213
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب: يقول الحق "إذا الشمس كُوِّرَت" ، كيف تُكَوَّر الشمس إذا كانت هي أصلاً مكورة ؟ أرجو الرد ، وشكراً .
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ {التكوير:1}:
اختلف أهل
التأويل في تأويل قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إذا
الشمس ذهب ضوؤها. وقال آخرون: معنى ذلك: رمي بها. والصواب من القول في ذلك عندنا:
أن يقال: (كُوِّرَتْ)
كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك
كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس، وكتكوير الكارة، وهي جمع الثياب بعضها إلى
بعض، ولفها، وكذلك قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فَرُمِي بها، وإذا فعل ذلك
بها ذهب ضوؤها، فعلى التأويل الذي تأوّلناه وبيَّناه لكلا القولين اللذين ذكرت عن
أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كورت ورمي بها ذهب ضوؤها. اهـ.
فالإشكال المذكور في السؤال
لا وجه له أصلا، فهو مبني على توهم أن معنى التكوير هو أن
يجعل شكلها كالكرة، وهذا ليس بصحيح .
والله أعلم.
==================================================
هل من فرق بين: (فأن لله خمسه
وللرسول ...)، وبين: (فأن خمسه لله والرسول ..)؟
الثلاثاء 3
ربيع الأول 1439 - 21-11-2017
رقم الفتوى:
364924
السؤال:
هل هناك فرق بين: (فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى...)، وبين: (فأن خمسه لله والرسول وذي القربى واليتامى...)؟ أرجو الرد، وشكرًا للإخوة الأعزاء في إسلام ويب.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن
النص القرآني قدّم الله تعالى فيه الخبر الذي هو شبه الجملة: (لله) على
اسم أن الذي هو: (خمسه)، ثم عطف على الخبر بإعادة حرف الجر، فقال: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى {الأنفال:41}،
بإعادة حرف الجر.
وإعادة حرف الجر في عطف
الاسم الظاهر على الظاهر، أسلوب عربي، يكثر وروده في القرآن للتأكيد.
وإذا تكررت
المعطوفات قد يعاد حرف الجر مع جميعها، كما في قول الله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {البقرة:7}، وقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
{المنافقون:8}،
وقوله تعالى:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {فاطر:25}.
وقد
يعاد مع بعضها ويترك مع بعضها، كما في آية الأنفال التي في
السؤال، وكما في قوله تعالى: مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ {الحشر:7}، وفي قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
{النساء:36}.
ويكثر ترك
إعادة حرف الجر، كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {الجاثية:23}،
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا
اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
{البقرة:83}،
وفي قراءة الجمهور: فَإِنْ
كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {آل
عمران:184}، وقرأ هشام بإعادة الجار في الكلمات
الثلاث، ووافقه ابن ذكوان في الزبر.
قال أبو حيان في البحر المحيط: وقرأ الجمهور:
والزبر. وقرأ ابن عامر: وبالزبر، وكذا هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ هشام بخلاف عنه: وبالكتاب. وقرأ الجمهور: والكتاب. وإعادة حرف
الجر في العطف هو على سبيل التأكيد. اهـ.
وقد أشار بعض أهل العلم إلى
أن من الحكم في تقديم اسم الله تعالى التبرك به، جاء في تفسير ابن كثير: وقوله: فأن لله خمسه وللرسول. اختلف المفسرون ها هنا، فقال بعضهم: لله
نصيب من الخمس يجعل في الكعبة. قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية
الرياحي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة، فيخمسها على خمسة،
تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض
كفه، فيجعله للكعبة، وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم
للرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وقال آخرون:
ذكر الله ها هنا استفتاح كلام للتبرك، وسهم لرسوله عليه السلام... اهـ.
وأما العبارة التي
ذكرتها: فأن خمسه لله .. فقد قدم فيها اسم أن على الخبر، وهي عبارة
صحيحة موافقة لقواعد الإعراب.
والله أعلم.
==================================================
المقصود بالفلاح في قوله
تعالى: "وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"
الأربعاء 4
ربيع الأول 1439 - 22-11-2017
رقم الفتوى:
365002
السؤال:
قول الحق: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ... وأولئك هم المفلحون" هل وصف هذه الفئة من الناس بـ (المفلحون) ينطبق عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟ أي: هل هم مفلحون في الدنيا أم في الآخرة؟ أيْ: يجب على من يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مفلحًا، أم هو تصنيف أخروي لهم. أرجو الرد، وشكرًا.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام
على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد وصف الله الداعين إلى
الخير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالفلاح، بل حصر الفلاح فيهم بقوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {آل
عمران:104}، فإن الإتيان بضمير الفصل يفيد الحصر، ومن هنا قال الزمخشري عند هذه الآية: وأولئك هم
المفلحون هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم. انتهى.
وهذا الفلاح الذي وعدوا
بالفوز به دنيوي، وأخروي. قال القاسمي -رحمه
الله-: وَأُولئِكَ الداعون الآمرون الناهون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون
بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم. قال بعضهم: الفلاح هو الظفر وإدراك البغية.
فالدنيويّ هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة، والأخرويّ أربعة أشياء: بقاء
بلا فناء، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل. انتهى.
والله أعلم.
==================================================
لماذا قال الله تعالى: "وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" ولم يقل: "وجمعت"؟
الخميس 5 ربيع
الأول 1439 - 23-11-2017
رقم الفتوى:
365164
السؤال:
يقول الحق: "وجُمِع الشمس والقمر"، لماذا لم يقل الحق: "وجمعت الشمس والقمر" بتاء التأنيث؛ حيث إن الشمس مؤنث مجازي؟ ألا يحتمل أن الشمس والقمر استعملا مجازيًّا، وليس هما الشمس والقمر الجرمين السماويين؟ أرجو الرد، وشكرًا.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن للعلماء أقوالًا
عدة في وجه تذكير: (وجمع) في قوله تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {القيامة:9}،
جاء في تفسير الطبري: وقوله: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يقول تعالى ذكره: وجمع بين الشمس
والقمر في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منهما، وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر لي: (وجُمِعَ بَين الشَّمْس والقَمَرِ)، وقيل: إنهما يجمعان ثم يكوّران،
كما قال جلّ ثناؤه: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، وإنما قيل: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) لما ذكرت من أن معناه جمع بينهما، وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول:
إنما قيل: وجمع على مذهب وجمع النوران، كأنه قيل: وجمع الضياءان، وهذا قول الكسائي
.اهـ.
وفي تفسير ابن عطية: وقوله تعالى:
"وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" غلب عليه التذكير على التأنيث، وقيل
ذلك لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، وقيل: المراد بين الشمس والقمر. واختلف المتأولون في معنى الجمع بينهما، فقال عطاء بن يسار: يجمعان
فيقذفان في النار، وقيل: في البحر، فتصير نار الله العظمى، وقيل: يجمع الضوءان،
فيذهب بهما .اهـ.
وفي تفسير القرطبي: (وجمع الشمس والقمر) أي: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس،
كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه، قاله الفراء، والزجاج. قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن
المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول
على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي .اهـ.
وأما كون المراد بالشمس
والقمر في الآية الكريمة معنى مجازيًّا غير حقيقي، فباطل، وتحريف للكلم عن مواضعه،
ولم يقل به أحد -فيما نعلم-.
والله أعلم.
==================================================
ما يفيده حرف العطف
"ثم" في قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب ...)
الأحد 8 ربيع
الأول 1439 - 26-11-2017
رقم الفتوى:
365209
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب في آخر سورة الأنعام يقول الحق "ثم آتينا موسى الكتاب "الأنعام-154- لماذا لم يأت بحرف العطف الواو بدلاً من (ثم)، هل هناك اثنان اسمهما موسى؟!! ، موسى قبل محمد وموسى بعد محمد !! في سورة البقرة 59 "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل.....فأنزلنا على الذين ظلموا..." ، لماذا لم يقل (فأنزلنا عليهم رجزاً) كما قال في سورة الأعراف (فأرسلنا عليهم) الأعراف-162- أرجو الرد، وشكراً .
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام
على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فموسى المذكور في آية
الأنعام التي أوردتَها هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وليس موسى آخر،
والإتيان بحرف العطف " ثم " في الآية لا يعني تأخر زمن موسى على زمن
محمد عليهما الصلاة والسلام فإن " ثم " هنا المراد بها عطف خبر على خبر،
قال ابن كثير في تفسيره: و" ثُم " هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب
هاهنا، كما قال الشاعر:
قُلْ لِمَنْ
سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ ... ثُمّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده
وهاهنا لما
أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ } عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ } ... اهـ .
وقال البغوي: فإن قيل: لِمَ قال: "ثم آتينا" وحرف "ثم" للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن؟ قيل: معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب، فدخل "ثم" لتأخير الخبر لا لتأخير النزول. اهـ
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: {ثُمَّ} هنا عاطفة على جملة: {قُلْ تَعَالَوْا} فليست عاطفة للمفردات، فلا يتوهم أنها لتراخي الزمان. اهـ
وفي زاد المسير لابن الجوزي: قال الزجاج ثم هاهنا للعطف على معنى التلاوة فالمعنى أتل ما حرم ربكم ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى. اهـ
وقال البغوي: فإن قيل: لِمَ قال: "ثم آتينا" وحرف "ثم" للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن؟ قيل: معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب، فدخل "ثم" لتأخير الخبر لا لتأخير النزول. اهـ
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: {ثُمَّ} هنا عاطفة على جملة: {قُلْ تَعَالَوْا} فليست عاطفة للمفردات، فلا يتوهم أنها لتراخي الزمان. اهـ
وفي زاد المسير لابن الجوزي: قال الزجاج ثم هاهنا للعطف على معنى التلاوة فالمعنى أتل ما حرم ربكم ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى. اهـ
وأما قوله في سورة البقرة
"على الذين ظلموا" ولم يقل " عليهم " كما في سورة الأعراف،
فالحكمة هي بيان أن المقصود بـ"عليهم " في سورة الأعراف هم الذين ظلموا،
وأن العذاب لم يَعُمَّ بني إسرائيل جميعا، بل أصاب الذين ظلموا فقط. قال ابن عاشور: وإنما جاء
بالظاهر في موضع المضمر في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزاً} ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل وبذلك تنطبق
الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق. اهـ
والله تعالى أعلم.
==================================================
حكم من أنكر الأخلاق الحسنة
التي وردت في النصوص الشرعية
الثلاثاء 10
ربيع الأول 1439 - 28-11-2017
رقم الفتوى:
365431
السؤال:
ما حكم من ارتد عن الأخلاق، لكنه لم يرتد عن الدين؟ كأن ينكر الشهامة والكرم والمروءة، وأن يؤمن بالقَبَلية والعصبية (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب). ما حكم من ارتد عن الدين، لكنه لم يرتد عن الأخلاق؟ ما حكم من ارتد عن الدين لقناعته بأن الدين لا يلبي، ولا يصل إلى، ولا يرقى إلى، سقفه الأخلاقي؟ ما حكم من أنكر الطلاق والتعدد في الدين الإسلامي، معتقداً بأن ذلك انحدار أخلاقي؟ أرجو الرد، وشكرا.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام
على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن ارتد عن الأخلاق، وهذه
الصورة الأولى المسؤول عنها. فإن كان ينكر وجود هذه الأخلاق في الإسلام، وأن
الإسلام دعا إليها، فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، فإن تصور جهله، فإنه يعرف
بأن الإسلام دعا إلى الصدق والجود ومحاسن الأخلاق ونحو ذلك، فإن أصر على التكذيب
وإنكار دعوة الإسلام إليها، فهو كافر مرتد.
وأما إن كان ارتداده عنها
ارتدادا عمليا فحسب، بأن كان يترك التخلق بهذه الأخلاق، ويتخلق بضدها من العصبية
المذمومة ونحو ذلك، فعليه إثمه بقدر ما ترك من الأخلاق الواجبة، وتخلق به من
الأخلاق المذمومة المحرمة، ولا يكون بمجرد ترك الخلق الفاضل، وارتكاب الخلق الذميم
كافرا، ولبيان موجبات الردة، انظر الفتوى رقم: 146893.
ومن ارتد عن الدين، فهو كافر
مخلد في النار إن مات على ذلك، وإن كان أحسن الناس خلقا، والزعم بأن الدين لا يلبي
طموح الخلق، كفر بالله تعالى؛ لأن ذلك يعد طعنا في الله تعالى الذي شرع لنا هذا
الدين؛ قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ
{الشورى:13}، والله
تعالى إنما شرع لعباده على ألسنة رسله كل خير، ونهاهم عن كل شر، ولم يترك ما فيه
مصلحة لهم إلا أرشدهم إليها، ولم يترك ما فيه مضرة لهم إلا نهاهم عنها.
ومن أنكر التعدد والطلاق،
فإنه يبين له حكم ذلك في الشرع، وتذكر له أدلته من نصوص الوحي، فإن أصر على
الإنكار فهو كافر لتكذيبه بالله تعالى، الذي شرع ذلك، ويجب على ولاة الأمر
استتابته، فإن تاب وإلا قتل، وإن مات على ما هو عليه، فهو خالد مخلد في النار أبدا.
والله أعلم.
==================================================
المؤمنون ينتفعون بالإنذار كما
ينتفعون بالبشارة
الخميس 12
ربيع الأول 1439 - 30-11-2017
رقم الفتوى:
365575
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب، قول الحق: " نذيرا وبشيرا لقوم يؤمنون" الأعراف-188. كيف يكون منذرا لقوم يؤمنون؟ ألا يحتمل أن نذيرا بمعنى (منذورا) وليس بمعنى (منذرا) لقوم يؤمنون؟!! أرجو الرد، وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام
على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمؤمنون محتاجون إلى
الإنذار، بل هم المنتفعون به على الحقيقة؛ لأنهم هم الذين يخافون عاقبته، ومن ثم
خصوا في هذه الآية المذكورة بالإنذار دون غيرهم؛ لأنهم المنتفعون بهذه النذارة،
وغيرهم لا ينتفع بها، فالمؤمنون ينذرون فيخافون، فيعملون ويطيعون، وليس ثم إشكال
على هذا، بحمد الله.
وذكر بعضهم وجها ثانيا في
قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
{الأعراف:188}، هو
أن النذارة متعلقة بمحذوف، تقديره للكافرين.
قال القاسمي ملخصا الوجهين: إن إنا إلا
نذير وبشير: أي عبد أرسلت نذيرا وبشيرا، وما من شأني أني أعلم الغيب. وقوله تعالى:
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. يجوز أن يتعلق ب نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ جميعا؛ لأن المؤمنين هم
المنتفعون بالنذارة والبشارة، أو يتعلق ب بَشِيرٌ وحده، ومتعلق النذير محذوف، أي
للكافرين، وحذف للعلم به. وقال الشهاب: ليطهر اللسان منهم. انتهى.
فهذان الوجهان في الآية وهما
واضحان كل الوضوح، وأما ما ذكرته فلم نفهمه.
والله أعلم.
==================================================
تفسير قوله تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ...
الأحد 6 ربيع
الآخر 1439 - 24-12-2017
رقم الفتوى:
367645
السؤال:
آية آمن الرسول-البقرة 285-(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) ، كل آمن بالله و..... تفصيل بعد إجمال مما يعني أن ( الله وملائكته وكتبه ورسله ) أُنزِلوا إلى الرسول والمؤمنين من رب الرسول ، الله أُنزل إلى الرسول والمؤمنين من رب الرسول ، ألا يُقر هذا النص مبدأ و مفهوم الآفاتار Avatar الموجود في الديانة الهندوسية. أرجو الرد. شكراً .
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنك
أيها الأخ قد أكثرت من الأسئلة الغريبة العجيبة التي تجتمع فيها الجرأة على
كتاب الله جل وعلا ، والاعتراض على أساليبه. فلا ندري ما الذي تريد الوصول إليه من
تلك الأسئلة ؟!
فليتك أيها الأخ انتصحت بما
نصحناك به سابقا ، من وجوب التأدب مع كتاب الله جل وعلا، واتقاء الجرأة على معانيه .
وسؤالك هذا لغرابته
وتهافته فالأولى فيما نرى الإعراض عنه ! ، ومع ذلك وبغض النظر عن معنى
الآية الكريمة ، فهل يتوهم عاقل -فضلا عن مسلم- أن آية من كتاب
الله العظيم يمكن أن تقر العقيدة الباطلة السخيفة التي ذكرتها ؟.
وبخصوص معنى الآية الكريمة :
فلم نقف على أحد من المفسرين قد ذكر أصلا أن قوله تعالى: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) تفصيل لما أجمل في قوله (آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) !
قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية : يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول = يعني رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأقر ="بما أنزل
إليه"، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد
وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها. صدق الرسول =
يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر ="بما أنزل إليه"، يعني: بما
أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير
ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها. قد قيل: إنها نزلت بعد قوله: "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"، لأن
المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما
أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لعلكم تقولون: "سمعنا وعصينا" كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا: بل نقول: "سمعنا وأطعنا"! فأنزل الله لذلك من
قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع
نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .اهـ.
وقال ابن عطية: سبب هذه الآية
أنه لما نزلت (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) -الآية التي
قبلها- وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر الأمر
على أن قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، مدحهم الله
وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه
تأولهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه
ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم
وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة
العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه، و(آمَنَ) معناه صدق، و(الرَّسُولُ)
محمد صلى الله عليه وسلم، و(بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) هو القرآن وسائر
ما أوحي إليه، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم، و(كُلٌّ) لفظة
تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك
في كل كلام، ولما وردت هنا بعد قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) دل ذلك على إحاطتها بمن
ذكر. والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه. والإيمان
بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم. والإيمان بكتبه هو
التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى
الله عليه وسلم، أو ما أخبر هو به. اهـ.
والله أعلم.
==================================================
تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
الأربعاء 23
ربيع الآخر 1439 - 10-1-2018
رقم الفتوى:
368791
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب، أثناء تأملي في كتاب الله، في سورة الحشر، عرضت لي بعض الملاحظات، من بينها، قوله تعالى: "والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم" لماذا لم يقل الحق: "والذين تبوءو الإيمان والدار من قبلهم" حتى يُحكِم الآية، ويقلل من التشابه؟ فوفق منطوق الآية: الأنصار تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين! ألا يحتمل أنه لا يقصد الأنصار والمهاجرين الذين قرأنا ونقرأ عنهم في التراث الإسلامي؟ وهل هناك فرق بين "للفقراء المهاجرين" وبين "للمهاجرين الفقراء"؟ أرجو الرد. شكراً.
الإجابة:
الحمد لله والصلاة والسلام
على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الواضح أنك تعمل فكرك من
غير آلة مكتملة، ولا ترجع إلى كتب التفسير، ومن ثم فنحن ننصحك بمراجعة كلام
العلماء؛ فإنه يعينك على فهم الآيات.
وفي الآية إشكال أشار إليه
العلماء، وهو أن الإيمان لا يُتبوأ، ومن ثم قدروا فعلا بعد قوله: تَبَوَّءُوا
الدَّارَ {الحشر:9}،
تقديره: وأخلصوا الإيمان، أو نحو ذلك.
وقوله: مِنْ قَبْلِهِمْ {الحشر:9}، لا يدل على أن
الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل معناه من قبل مجيئهم، أي المهاجرين إليهم،
ووفودهم عليهم.
فالمهاجرون والأنصار هم
المهاجرون والأنصار المعروفون لا غيرهم.
قال القاسمي في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ {الحشر:9}: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ: أي دار الهجرة. أي توطنوها.
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أي من قبل مجيء المهاجرين إليهم. وعطف الْإِيمانَ
قيل: بتقدير عامل. أي وأخلصوا الإيمان. وقيل: استعمل التبوّؤ في لازم معناه، وهو
اللزوم والتمكّن. والمعنى: لزموا الدار والإيمان. وجوّز أيضا تنزيل الإيمان منزلة
المكان الذي يتمكّن فيه، على أنه استعارة بالكناية، ويثبت له التبوّؤ على طريق
التخييل. انتهى.
وأما تقديم وصف الفقر على
وصف الهجرة، فهو -والعلم عند الله تعالى- لكونه الوصف الذي استحقوا به أخذ الفيء.
قال الألوسي: وفي الكشف أن
لِلْفُقَراءِ ليس للقيد، بل بيانا للواقع من حال المهاجرين، وإثباتا لمزيد
اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين. انتهى.
والله
أعلم.
==================================================
المراد بالذين كفروا في قوله
تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ..."
الخميس 2
جمادى الأولى 1439 - 18-1-2018
رقم الفتوى:
369316
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب: قول الحق: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم)، هل (كفر) في أول الآية بنفس معنى (كفروا) في آخر الآية؟ أيْ: لماذا قال في آخر الآية: (كفروا منهم)؟ أو ليس كلهم كفارًا بالفعل؟ أرجو الرد، وشكرًا.
الإجابة:
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد
أوضح المفسرون ما ظننت أنه إشكال في الآية الكريم، ومنهم الطاهر
بن عاشور في كتابه: التحرير والتنوير (6/
284) حيث قال:
"وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَيْنُ الْمُرَادِ بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ،
فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الصِّلَةِ
الْمُقَرَّرَةِ لِمَعْنَى كُفْرِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِلَخْ؛ لِقَصْدِ تَكْرِيرِ تَسْجِيلِ كُفْرِهِمْ،
وَلِيَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُومِئًا إِلَى سَبَبِ الْحُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ
عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا؛ يَكُونُ قَوْله: مِنْهُمْ بَيَانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
قُصِدَ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا
وَعِيدٌ لِكُفَّارٍ آخَرِينَ. انتهى.
والله أعلم.
==================================================
تفسير قوله: قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
الخميس 5 ذو
الحجة 1439 - 16-8-2018
رقم الفتوى:
381581
السؤال:
الإخوة الأعزاء في إسلام ويب: قول الحق: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله. آل عمران-52، والآية الأخرى في سورة الصف-14: كونوا أنصار الله.... أليس في الآيتين دليل واضح على أن عيسى عليه السلام يُطلق عليه لفظ [الله]! كيف هذا؟!أقول: السؤال من عيسى للحواريين كان بصيغة: {من أنصاري} بياء المتكلم، لكن جواب الحواريين كان بصيغة {نحن أنصار الله}، وكان من المتوقع أن يجيب الحواريون {نحن أنصارك إلى الله} بكاف الخطاب. وهكذا يكون سؤال عيسى {من أنصاري إلى الله؟}، ويكون جواب الحواريين {نحن أنصارك إلى الله}، لكن الحواريين قالوا: {نحن أنصار الله}، إذاً يكون ههنا لفظ الجلالة [الله] في {نحن أنصار الله}، قد حل محل كاف الخطاب في: {نحن أنصارك} وكاف الخطاب=عيسى. فيكون تقدير الآية هكذا: [من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله إلى الله] = {نحن أنصارك إلى الله} = {نحن أنصار عيسى إلى الله}. فيكون في الآية اثنان الله: 1-الله الذي هو عيسى، 2-الله الآب. أرجو الرد. وشكراً.
الإجابة:
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري على ماذا نرد!!
فهذا الكلام الفارغ لا يصح لا لفظه وصياغته، ولا معناه ومدلوله. ولو وقع الاستدلال
على هذا الباطل المحال بغير القرآن لكان الأمر أهون، ولكن أن يُستدل بهذا الكلام
العربي الفصيح الناصع، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، على هذه
الأضحوكة السمجة الباطلة، فهذا مما لا ينقضي منه العجب!!! وكأن المستدل أعجمي
عامي؛ لأنه لو كان عربيا، لما فهم هذا الفهم الفاضح المنكوس، ولو كان أعجميا ولكنه
عالم، أو حتى مثقف، لما وصل إلى هذه النتيجة التي تخالف الواقع والتاريخ، والمأثور
عن أهل الملل.
وعلى أية حال، فحسبنا في نقض هذا الكلام ما يحمله من تناقض مزعج غير محتمل، حيث يكون معنى قول عيسى: من أنصاري إلى نفسي؟!!!
وعلى أية حال، فحسبنا في نقض هذا الكلام ما يحمله من تناقض مزعج غير محتمل، حيث يكون معنى قول عيسى: من أنصاري إلى نفسي؟!!!
وإذا كان هذا هو المعنى الذي
يعنيه المتكلم فهذا لا تسيغه لغة -عربية أو غير عربية- فضلا عن منطق العقل السليم.
ولا يقبل مثل هذا إلا من قَبِل عقيدة التثليث الباطلة المتناقضة، التي لا يقبلها
عقل، ولا يستسيغها طبع، وانظر في ذلك الفتوى رقم: 135917 وما
أحيل عليه فيها.
ثم ألم يقرأ هذا القائل بعد قوله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] قوله عز وجل: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53]، وفيها النص والتفريق الجلي الواضح بين مقام الألوهية والربوبية، وبين مقام النبوة والرسالة!
وأما بخصوص الضمير (ياء المتكلم) في قول عيسى: {أَنْصارِي} وعلاقته بجواب الحواريين: { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وما يفهم من هذا التركيب، وتمتاز به هذه الصياغة، فقد بيَّنه أهل العلم قديما وحديثا.
ثم ألم يقرأ هذا القائل بعد قوله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] قوله عز وجل: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53]، وفيها النص والتفريق الجلي الواضح بين مقام الألوهية والربوبية، وبين مقام النبوة والرسالة!
وأما بخصوص الضمير (ياء المتكلم) في قول عيسى: {أَنْصارِي} وعلاقته بجواب الحواريين: { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وما يفهم من هذا التركيب، وتمتاز به هذه الصياغة، فقد بيَّنه أهل العلم قديما وحديثا.
قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: ما
معنى قوله: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ}؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب
الحواريين: {نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ} والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي
متوجها إلى نصرة الله، وإضافة {أَنْصارِي} خلاف إضافة {أَنْصارُ اللَّهِ}؛ فإنّ معنى {نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ}: نحن
الذين ينصرون الله. ومعنى {مَنْ أَنْصارِي} مَن الأنصار الذين يختصون بي، ويكونون
معي في نصرة الله؟ ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله، لأنه لا يطابق
الجواب. والدليل عليه: قراءة من قرأ: من أنصار الله. اهـ.
وقال أبو العباس البسيلي في التقييد الكبير: {نحن أنصار اللَّه ..} فيه سؤال، وهو أن الجواب باعتبار الفَهْم لم يطابق السؤال، وإنما تحصل المطابقة لو قال: "نحن أنصارك إلى الله". والجواب: أن هذا أبلغ؛ لأنه يفيد أنهم أنصاره، وزيادة اعتصامهم باللَّه، ويدل عليه قولهم: (آمنا باللَّه وأشهد بأنا مسلمون) أي حصَّلنا الإِيمان، وأشهد بأنا متصفون بشرائعه. اهـ.
وقال ابن عرفة في تفسيره: قول الحواريون: {نَحْنُ أنْصَارُ اللَّهِ} بالإضافة، أبلغ من طلب عيسى منهم، ومعناه: نحن أنصار الله لك، أو مع خلانك، ولو قالوا: نحن أنصارك إلى الله؛ لكان مفهومه أنهم لَا ينصرون غيره إلى الله. اهـ.
وقال أبو زهرة في زهرة التفاسير: أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:
وقال أبو العباس البسيلي في التقييد الكبير: {نحن أنصار اللَّه ..} فيه سؤال، وهو أن الجواب باعتبار الفَهْم لم يطابق السؤال، وإنما تحصل المطابقة لو قال: "نحن أنصارك إلى الله". والجواب: أن هذا أبلغ؛ لأنه يفيد أنهم أنصاره، وزيادة اعتصامهم باللَّه، ويدل عليه قولهم: (آمنا باللَّه وأشهد بأنا مسلمون) أي حصَّلنا الإِيمان، وأشهد بأنا متصفون بشرائعه. اهـ.
وقال ابن عرفة في تفسيره: قول الحواريون: {نَحْنُ أنْصَارُ اللَّهِ} بالإضافة، أبلغ من طلب عيسى منهم، ومعناه: نحن أنصار الله لك، أو مع خلانك، ولو قالوا: نحن أنصارك إلى الله؛ لكان مفهومه أنهم لَا ينصرون غيره إلى الله. اهـ.
وقال أبو زهرة في زهرة التفاسير: أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:
- أولهما: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله تعالى، وأنه رسول أمين؛
ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم
نصراء الله تعالى؛ ولذا قالوا: نحن أنصار الله، ولم يقولوا: نحن أنصارك.
- الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة اللَّه تعالى، ونصرة رسوله عيسى عليه السلام. اهـ.
- الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة اللَّه تعالى، ونصرة رسوله عيسى عليه السلام. اهـ.
والله أعلم.
==================================================
انتهى. 10 فبراير 2019.
No comments:
Post a Comment